مذبحه المدن: عشره أعوام بين العنف البطيء، والهدم الكامل

العودة للمجلّة >

عمّار عزّوز

حمص، للمصور حسام والي ٢٠٢٠

حمص، للمصور حسام والي ٢٠٢٠

لم تعد مدينتي حمص في سوريا تلك المدينه التي عرفتها يوما. مدينتي التي أرغمت على هجرتها عشره أعوام ماضيه من دون عوده، بعيداً عن شوارعها، وحاراتها، بعيداً عن ناس ربّما رحلوا، ربّما قتلوا، ربما بقيوا. تبدو مدينتي اليوم بعد عشره أعوام من اندلاع الثوره السوريه في اذار 2011، مدينه مذبوحه، منهكه من الخسائر، بعد عقد كامل من التدمير لعمارتها اليومية، وتهجير العديد من سكانها. لكن خسارة مدينتي ليست هي الخساره الوحيدة. نخسر مدننا في العالم العربي الواحدة تلو الأخرى في الحرب كما في العراق وليبيا واليمن، وفي "السلم" كما في لبنان ومصر. نخسر ونخسر كل يوم: شوارعنا، أسواقنا، بيوتنا، متاحفنا، مكتباتنا وأماكن ألفناها وترسّخت في ذاكرتنا. ونخسر مع كل هذا تاريخنا وبقايا من ماضينا، في وقت تتدمر فيه ليس فقط مدننا، بل حيواتنا كذللك.

العنف البطيء والمدن: ما قبل الحرب

لكن الخسارة الكبيرة التي مرت فيها مدننا كالرقّة وحلب ودير الزور ودمشق لم تبدأ فقط كما يبدو للبعض منذ عام 2011، بل كانت تلك الخسارة امتداداً لخسارات سبقتها. تعرضّّت مدننا لما يسمى بـ"العنف البطيء"، وهو مصطلح وضعه روب نيكسون، مع الوقت من تدمير لتراثنا بهدف "تحديث" و"تطوير" المدن وانتشرت جغرافيات اللامساواة والظلم لتخلق مدناً مجزئّة داخل مدننا تزدهر فيها حياه الطبقات الوسطى والأغنياء على حساب الأحياء الفقيرة. ^& ففي حمص مدينتي على سبيل المثال، اقتلعت أشجار الكينا والأكاسيا لتوسيع الشوارع و"تجميلها"، ودمّرت قصور وبيوت أثريه في المدينة القديمة التي تعرضت للإهمال منذ بداية الثمانيات. لعقود عده، خسرت حمص الكثير من نسيجها العمراني والاجتماعي والثقافي بشكل بطيء وكأن كل هذه التراكمات كانت تقود الطريق للحظات الهدم الكامل الذي تعرضت له حمص في العقد المنصرم.

ما زلنا نشهد اليوم حلقات من العنف البطيء والسريع، كما نشهد تدميرا للمدن في الحرب وفي "السلم". ففي القاهرة، تدعو سياسات الاعمار والتخطيط لتخيلات من اليوتوبيا لقاهرة جديده سوريالية. يتم تدمير مساكن الفقراء وأسواقهم الشعبية، ويتم إزالة مبان أثريه ومقابر تاريخية لتمحو معها تاريخ المدينة. تكتب أمنية خليل، وهي باحثة أنثروبولوجيا في شؤون العمران من مصر، عن هذا العنف المستمر في القاهرة: عنف يهمش المهمشين، ويزيد من عذابهم اليومي وكأن ازاله الطبقة الفقيرة من المدينة وترحيلها هو الحل لخلق القاهرة الخيالية. تسأل خليل (2021) بعد كل الخسارات العمرانية :"القاهرة في عشر سنوات... هل نعرفها؟" ^& وكأننا غرباء وغريبات في مدننا نتعلم الخسارة كل يوم ونفقد فيها القدرة على توجيه أنفسنا في مدن تتغير ملامحها. لوضع هذا الدمار ضمن بعد تاريخي وضمن جغرافيات مختلفة، تحدث في العام الماضي ناصر رباط، وهو مؤرخ معماري سوري وأستاذ كرسي الآغا خان للعمارة الإسلامية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، عن الهدم في المدن ليس في وقتنا الحاضر فحسب ولكن ايضا عبر التاريخ. ^&

لم يكن العنف والهدم في حمص قبل الحرب ممارسا ضد المدينة فقط، وانما كان يمارس في غرف الجامعة ضد طلاب وطالبات العمارة. كان أحد الأكاديميين قبل الحرب وهو من أشهر "معماريين" المدينة يدخل مراسم العمارة ليمارس قمعه ضدنا، بدل تعليمنا. "ليش حاطه مناكير؟ وليش كل هالميكب؟ مرتي ما بتحطلي كل هالقد بالبيت؟" أذكره يقول لإحدى زميلاتي مهينا لها امام كل الطلاب والطالبات، "بعد كل هالحكي ليش ما عم تبكي؟ يلا ابكي". أذكر لليوم تفاهة وقباحة وغباء وعدوانيه هذا "الأكاديمي". أذكر كم كان سيئا التعليم الذي لم يحضر معماريين ومعماريات المستقبل لمواجهه تحديات مدننا. كم كنا بحاجه للتعليم وللمعرفة لننقذ مدننا. لكن بعض "أكاديميينا" كانوا مشغولين بأجسادنا وملابسنا ومظهرنا وبالتعنيف ضدنا. مع تهجير وقتل الكثيرين في الكادر الأكاديمي في سوريا وانهيار أنظمتنا التعليمية وغياب الحريات الفكرية في الجامعة، كم نحن بحاجه اليوم لأكاديميين وأكاديميات لننهض بمدننا من الدمار، لنبني معرفة نحتاج لها اليوم وغدا، كم نحن بحاجه لمفكرات ومفكرين، لناقدات وناقدين لكاتبات وكتاب.

المدن مسارح الحرب: ما بعد الحرب، كل يوم حرب

ان تراكمات العنف البطيء قد تحولت لعنف سريع شهدته الكثير من المدن منذ بدايات الربيع العربي. في هذه الحروب، لم يكن القتال والمعارك خارج المدن بل في داخلها ليتم تدمير وتحطيم سبل العيش اليومية. تم تدمير مساكن الناس التي وجدوا فيها المسكن والانتماء. حتى أفران الخبز والمشافي تم تدميرها واستهدافها على الخصوص لتدمير سبل النجاة وسبل الحياة. تم استهداف كرامه الناس في هدف اذلالهم عبر تحطيم حاراتهم وحتى في بعض الاحيان نبش القبور وتدميرها. ثم بعد ذلك، تم سرقه منازل الناس بعد اخراجهم منها. في بلدي سوريا، أكثر من نصف الشعب تم تهجيره عن بيته داخل وخارج سوريا حين تحولت مدننا وقرانا لمسارح حرب. نعيش الحياة بعد الصدمات وبينها من خسارة يوميه وتهجير وألم ومعاناة.

كانت ال2011 تبعث فينا الأمل في التغيير، في مستقبل عادل، في سعي لتحطيم جدران الخوف والتقسيم والعنف. أذكر لليوم المظاهرات في حمص. لكن اذكر أيضا في ال 2011 استهداف احدى هذه المظاهرات، لأعلم يومها أن صديقي طاهر السباعي والذي كان معي في كلية العمارة بحمص، قد قتل. عند سيري لتشييعه في بابا عمرو في حمص، كانت دبابات النظام منذ تلك الأيام الأولى للثورة مستعدة لسحقنا. كانت أقرب مرة أكون فيها لدبابة، بضعه أمتار فقط، لم أعرف يومها ان كان هذا يوم مقتلي أم لا. لقد عرفنا كلنا حينها أن مدينتنا اصبحت ساحة الحرب نفسها، أن حياتنا اليومية مهددة وفي خطر. أغلقت الشوارع، ووقف القناصة على أبراج حمص. كانت أجسادنا مستهدفه ومنذ ذلك اليوم كانت خساراتنا يوميه، نعيش معها ونموت كل يوم قليلا، كما مدننا.

مرّت سنوات عديدة منذ انتهاء الحصارات المتعددة والقتال في حمص. لكن ما مع بعد هذه المعارك، يبدو كل يوم كالحرب. تبدو الحرب مختلفه من أجل السعي للعيش، وتبدو الحياه اليوميه كالموت البطيء. يقول لي سامر في حمص انه يتم تعيين كمية الخبز المخصصه لكل شخص أو عائله في حمص. يستطيع استلام حصته مره في الاسبوع، لكن هذا الأسبوع عندما وصل لاستلام خبزه الأسبوعي، لم يكن له اسم على القائمه. لا يستطيع ان يشتري نوع الخبز الأغلى المعروف بالخبز السياحي او "اللبناني". يعيش أكثر من 80 بالمئه من السوريين والسوريات في سوريا بفقر، وتبدو ابسط الاحتياجات اليوميه كالخبز والكهرباء والماء والطعام والتدفئه والانترنت كالعمل الشاق. "معقول الحياه بعد الحرب أصعب من الحرب نفسا؟" تسألني شابة في آخر العشرينات في حمص عندما تكلمت معها. "كل يوم حرب"، تضيف لي.

كثيره هي الدراسات العمرانيه التي تربط علاقه المدن بالعنف والنزاع، لكن ما نلاحظه اليوم في دراسات "ما بعد النزاع" أن العمران والعمارة والتخطيط يستخدمون كأدوات للعنف لخلق جغرافيات طائفية، ولخلق بيئات متجانسة وكأنها تعد مدننا لحروب تخيلية في المستقبل. هذه النقاط بالتحديد كانت تركيز كتاب بانتظار حربٍ مقبلة: تخطيط بيروت وضواحيها (2018) لهبة بو عكر، وهي أستاذة مساعِدة في برنامج التنظيم المُدني في كلية الدراسات العليا في العمارة والتخطيط والحفظ في جامعة كولومبيا. ^& تسائل بو عكر في أبحاثها عن "كيف تشكّل الحروب المقبلة المُنتظرة المساحة المدينيّة وتساهم في خلق جغرافياتٍ مقسّمةٍ طائفيًا في بيروت". ^& في الكتاب تركيز على العلاقة ما بين الحرب والسلم، ما بين الدمار وإعاده الاعمار، ما بين الماضي والحاضر والمستقبل. فعملية اعاده الاعمار ليست نهاية للعنف والتدمير والتهجير، وانما قد تكون بداية جديدة لها.

أعود دوما لدراسات أكاديميّة وكتابات عن تجارب سابقة في مدن أخرى والتي تضفي عندي مخاوف من خسارة مدننا مره ثانيه، ليس في الحرب فحسب كما في حمص خلال العقد الماضي، وإنما "بعد الحرب"، تحت اسم "إعادة الإعمار". نحن بحاجة ملحة اليوم لفهم العلاقة ما بين العنف والمدينة في زمن الحرب وما بعدها. هذا الفهم ونشره ضروري الان قبل أن تصل الجرافات في المستقبل (وقد وصلت من الان في بعض مناطق سوريا) لتمحي ما تبقى من مدننا. سواء كان في حلب، في حمص، في دمشق أو في الموصل، يزداد الخوف من إعادات اعمار تهدف لخلق دبيات جديده في مدن تاريخيه، او سوليديرات جديده تشبه التي غيرت ملامح بيروت بعد الحرب الأهلية فيها.

ان خسرنا حقنا في المدن، فلنكتب

في بيتي في لندن أجلس في الكثير من الأحيان وأبحث في خرائط غوغل عن حمص. هل يقوم بذلك كل من ترك وطنا؟ كم تبدو حمص صعبة المنال. أزور تلك الشوارع من جديد، أذكر تماما تلك الدكاكين والأزقة، تعود الذاكرة بي لأماكن لم تعد موجودة بعد أن تم تدمير أكثر من ثلاثة أرباع أحياء المدينة. خسرت، كما ملايين السوريات والسوريين، حقّي في مدينتي، مهجراً وبعيداً بانتظار يوم أستطيع فيه أن أعود. لا أعرف ان كنت يوما ما سأستطيع العودة. لا أعرف كيف ستكون هذه العودة بعد مذبحة مدينتي وبأية حالة ستكون. خسارتي هي ليست خسارتي وحدي، انما هي خسارة الملايين منا منتشرين حول العالم بين خيم وبيوت ومساكن ومشردين ومشردات في بلدان كلبنان والأردن ومصر والنرويج وألمانيا. أذكر لليوم عند زيارتي لمخيم موريا في اليونان حين قالت لي امرأة سوريه "كل شيء عندي بحلب خسرته، بيتي واهلي". ماذا بقي لنا من سوريا وفي سوريا؟ كل شيء محطّم، كل شيء مدمّر يذكرني بحمص.

مدننا في العالم العربي تتمزق في دوامات من القهر والظلم، في مدن أنهكتها الطائفية والدكتاتوريات والفساد. لكن ان خسرنا بيوتنا، واحلامنا، ان خسرنا أحبابا لنا، وذكرياتنا، ان خسرنا كل شيء، فلنكتب. يتم إعادة كتابه تاريخنا امام أعيننا، نقف عاجزين وعاجزات أمام فهم ما حل في هذه المدن: ماذا حل في الموصل؟ ما هو حال بنغازي؟ كيف هي تعز؟ وماذا يحصل في دير الزور؟ ان كنا قد خسرنا كل حقوقنا في مدننا وان كان حتى تخيّل مستقبل مختلف بعيدا عن الدمار، فلنكتب.

نبذة عن الكاتب:

عمّار عزّوز هو محلّل ومهندس معماري لدى شركة "أروب" في لندن، وهو باحث مشارك في جامعة أكسفورد. عمل عمّار سابقاً كباحث زائر بجامعة كامبريدج وحاز على درجة الدكتوراه في الهندسة المعمارية من جامعة باث. وقد كتب عن تدمير المدن والممارسات الحضرية اليومية في المدن المتنازع عليها. تم نشر بحوثاته من قِبل مجلة "الاندبندنت" و "ذا كونفرزيشن" و"نيو ستيتسمان" و"سيتي متريك" وجورنال المعماريين و"تشاتام هاوس" و"سيتي" وغيرهم. كما تم اختيار بحثه "المهندسون المعماريون وقت الحرب" ضمن قائمة جوائز رئيس المعهد الملكي للمعماريّين البريطانّيين للبحوث لعام ٢٠١٨.

قراءات ذات صلة

Previous
Previous

Middle East Urban Studies Highlights of 2020

Next
Next

Generative Processes for Revitalizing Historic Towns or Heritage Districts