مراجعة مشروع: أبعد من الإسمنت

العودة للمجلّة >

أستديو أشغال عامّة

open-uri20190927-32218-1xfa1z2.jpg
في لبنان، لطالما ارتبطت الرؤية الوطنية للتنمية الاقتصادية ارتباطاً وثيقاً بقطاع البناء، ويتطلب هذا القطاع استخراج 3 ملايين متر مكعّب من البحص والرمل سنوياً كحدّ أدنى حسب تقرير "الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية"، مما يعني تحويل 50 هكتار كمقالع رملية مع كل ما يعني ذلك من تشويه للبيئة الطبيعية.

بالفعل، قد أدّى التركيز على الأرض كمصدر للربح وجمع الثروات الى تدمير سُبل العيش وعلاقة الناس بمحيطها، ونرى هذا التوّجه متجسداً في خطط تصنيف الأراضي التي لا تزال تُوضع من دون إشراك السكان والأشخاص المتأثّرين بها. على هذا النحو، يظل التخطيط أداة للأقوياء، يستبعد القضايا الملحّة ويستثني فئات اجتماعية واسعة.

كما إنّ التفكير في التنمية في لبنان يتمّ دوماً على نطاق جغرافي/سياسي ضيق وبشكل غير متكامل، قلما يأخذ بالاعتبار الخيارات المُتاحة خارج البلدة أو المنطقة أو القضاء، ما يؤدّي حتماً إلى السماح بإقامة نشاطات متناقضة في البقعة الجغرافية عينها. ورغم أنّ "الخطة الشاملة لترتيب الأراضي" الصادرة في ٢٠٠٩ كانت مناسبة لإعادة الطابع الوطني للسياسات العامة، فإنّ تمادي الإدارات العامة في الخروج مراراً عن مبادئها يستتبعه تناقضات ومساوئ تؤثّر مباشرةً على حياة الناس.

«كما إنّ التفكير في التنمية في لبنان يتمّ دوماً على نطاق جغرافي/سياسي ضيق وبشكل غير متكامل، قلما يأخذ بالاعتبار الخيارات المُتاحة خارج البلدة أو المنطقة أو القضاء، ما يؤدّي حتماً إلى السماح بإقامة نشاطات متناقضة في البقعة الجغرافية عينها.»

في ذاكرة سكان الكورة، منطقتهم هي "الكورة الخضراء"، يحدّها شمالاً وادي قاديشا وجنوباً نهر الجوز الذي يفصل ساحلها الطبيعي عن قضاء البترون، بالإضافة الى نهري العصفور والجرادة حيث تمتد على ضفافهما الهضاب الخضراء وأراضي الزيتون والعنب والتين وغيرها. تعوم بلدات الكورة على مياه جوفية مصدرها تنورين تُعتبر من أبرز خزّانات الثروة المائية في لبنان، وتشمل واجهة بحرية ازدهر على طولها صيد الأسماك واستخراج الملح والنشاطات البحرية المختلفة. وجّهت هذه الخصائص البيئية شكل النشاطات الاقتصادية التي تتناسب معها، وذلك قبل أن يتحوّل شاطئ الكورة وأراضيه الداخلية إلى منطقة صناعية تنتشر فيها المعامل والشركات والمقالع بشكل غالباً ما يوصف بأنه عشوائي وغير منظم.

في العام 1931 – وعلى ساحل بلدتَي شكا والهري – تم إنشاء أوّل معمل لصناعة الإسمنت في لبنان: «شركة الترابة اللبنانية»، وبعد حوالي عقدين على بدء أعمالها، تم إنشاء – أيضاً على الساحل الشكاوي – معمل آخر لصناعة الإسمنت، تابع لـ «شركة الترابة الوطنية». في ذلك الوقت، لم يكن هناك وزارة تصميم ولا قانون للتنظيم المدني ولا أنظمة لاستخدامات الأراضي لأيّ من بلدات شكا أو تلك المحيطة بها، ولا حتى على الصعيد الوطني. توّسعت أعمال شركتي الترابة من دون رادع متجاهلةً المعايير البيئية والصحية، وذلك عبر عدد من الممارسات التي أجازتها الدولة اللبنانية وسمحت بها. وحدث ذلك كله في ظل سياسات وطنية أسهمت بشكل كبير بنجاحها وتطوّرها: ففي العام 1993 منعت الحكومة اللبنانية استيراد الإسمنت من الأسواق الخارجية، مما أدى الى زيادة سعر الطن مراراً، وذلك تحت غطاء ودعم سياسي مستمرين. كما ترافق افتتاح معامل الإسمنت في شكا مع بدء عمليات استخراج المواد الأوّلية من البلدات المجاورة. انتشرت المقالع غير المرخصة في بلدات الكورة، مما أدى الى تدهور سريع في البيئة وصحة الناس وسبل العيش التي سبقت توسّعها. وكان شراء الأراضي عاملاً أساسياً في انفلاش الشركات وسيطرتها على مصير وموارد المنطقة، مستفيدة من الحرمان والتهميش الاقتصادي اللذين كانت تعاني منها القرى الصغيرة.

إنّ التحوّل الذي جرى في بنية المنطقة أقل ما يقال أنه كان شاملاً ومدمراً من الناحية الاجتماعية والاقتصادية والبيئية. لم تتمكن الصناعات من أن تكون بديلاً مستداماً للزراعة والنشاط البحري كمصدرين أساسيين للدخل. لذا، مع مرور الزمن، أصبحت الخيارات المُتاحة للمنطقة وسكانها محدودة جداً، لا سيّما البلدات المحيطة بالمعامل، مما دفع أهالي المنطقة إلى تسميتها "بلدات الطوق": مصطلح عادةً ما يستخدم لفصل مكان عن محيطه ومحاصرته من كافة الجهات من قِبل جهة معادية.

بهدف التصدّي لهذه التحوّلات ورفع الأضرار التي تسببت بها، أطلقت المجموعات الأهلية والجمعيات البيئية في شكا والكورة حراكاً بارزاً منذ سنوات التسعينات أثار خلالها عدد من الجمعيات موضوع التلوّث الصادر عن المعامل. وقد نشر بعضها دراسات تحدّد الأضرار البيئية المباشرة الناجمة عن انبعاثات شركتي الإسمنت ومقالعها، من تلويث للهواء والمياه الجوفية والبحر والتربة، وما يستتبع ذلك من أضرار على صحة الإنسان والنبات. مؤخراً، تفاقمت وتيرة التحركات وشملت كتابة العرائض وتنفيذ الاعتصامات وتقديم الشكاوى لدى الوزارات المعنية والدعاوى القضائية لدى المحاكم المختصة وتنظيم الندوات والوقفات الاحتجاجية. شمل الحراك شرائح اجتماعية متنوعة، بالإضافة الى بعض المجالس البلدية، وصولاً الى إتحاد بلديات الكورة الذي تبنى معركة إقفال المقالع غير القانونية التابعة للشركات. في هذا السياق - ودعماً لجهود المجتمع الأهلي والحراك القائم - أطلق "استوديو أشغال عامة" في أيلول 2019 بالتعاون مع نقابة المهندسين في بيروت وطرابلس وتحت رعاية "إتحاد بلديات الكورة" مسابقة "أبعد من الإسمنت" لحصد حلول بديلة ودامجة لمشكلة البيئة والاقتصاد المحلي والعمران في شكا وبلدات الطوق.

المسابقة – التي شاركت فيها عشرات الفرق وسوف تصدر نتائجها في آذار 2020 – هي بمثابة نداء نحو ضرورة إعادة النظر في الأنماط السائدة في مفهوم التنمية واستخدام الأراضي والتنظيم المؤسّسي الذي تخضع له المناطق في لبنان، بالإضافة الى السياق السياسي الذي يتطلّب مستوى جديداً ومبدعاً للتصدّي له. إذاً، تمثّل المسابقة دعوة مفتوحة للعمل معاً وتوظيف خبراتنا وخلفياتنا المتعددة لصياغة مقترحات من شأنها الاستجابة الى مفهوم التنمية المستدامة والى حاجات الناس الآنيّة وضرورات الانماء المستدام من فرص عمل واقتصاد محلّي من دون المساومة على الصحة والبيئة والموارد الاقتصادية المحلية.

لقد سبق وأطلق استوديو أشغال عامة مع نقابة المهندسين والمؤسسة العامة للإسكان مسابقة حول إمكانية السكن الميّسر في لبنان تحت عنوان "فكر إسكان".

يسعى أستوديو أشغال عامة، منذ تأسيسه في العام 2012، لتطوير أساليب استخدام مهنة التصميم والتخطيط لخدمة قضايا الشأن العام والمصلحة العامة. تعتبر المسابقات المفتوحة من أهم هذه الأساليب، وقوامها طرح البدائل أمام الرأي العام والشرائح الاجتماعية المعنيّة، وذلك بهدف إحداث تغيير واسع النطاق على المستويين المطلبي والإجتماعي، لا سيّما أنها تأتي نتاج عملية من البحث التشاركي المعمّق. يعتمد المشروع البحثي منذ بدايته على منهج تشاركي في تشخيص الإشكاليات، من خلال تنظيم اللقاءات الفردية مع معنيين، واللقاءات العامة مع السكان، والنقاشات مع مجموعات فاعلة أو متأثرة بشكل مباشر، ومع فئات قطاعية، لتشخيص المشاكل. يكتسب المشروع من خلال منهجيته «حلفاء» له اهتموا بتفاصيل المسابقة والنقاش في جدواها.

فالهدف من المسابقات هو إحداث أثر مستدام يتجاوز القضية نفسها ويتخطى المستوى المحليّ (على أهميته) وتستفيد منه فئات إجتماعية واسعة على المستوى الوطني. وإنطلاقاً من ذلك، تتخطى المسابقات دائرة الخبراء أو المهنيات والمهنيين، وغالبا ما تكون جزءا من إستراتيجية أوسع تتضمن حملات المناصرة ورفع الوعي، وذلك لجعل التنظيم المدينيّ وإنتاج السياسات العامة عمليةً ديمقراطيّة - لا أداة للسلطة تفرض من خلالها هيمنة قلة من الناس على حياة الآخرين. هذه الإمكانيات تتيح للسكّان - على اختلافهم وتنوّعهم - الفهم، الحكم، وإتخاذ القرار من أجل إنتاج مساحاتٍ مثيرة للإهتمام، قابلة للحياة، وعادلة. في مسابقة "أبعد من الإسمنت"، نأمل للمقترحات أن تغدو نقطة انطلاق لنقاشات قادرة على تشكيل تحالفات واسعة النطاق للمناصرة من أجل بيئة غير إقصائية وملائمة للعيش، ورؤية تنموية تحكمها مبادئ العدالة الاجتماعية بدلاً من المصالح الاقتصادية المحدودة.

نبذة عن المجموعة:

«أشغال عامّة» هو استديو أبحاث وتصميم متعدّد التخصّصات، منخرطٌ نقديّاً وإبداعيّاً في عددٍ من القضايا المدينيّة والعامّة في لبنان. عبر التعاون مع شبكةٍ من المحترفين/ات في مجالاتٍ ذات صلة، يطلق الأستديو مشاريع بحثيّةَ تهدف إلى دراسة، تصميم، وتنفيذ إستراتيجيات بديلة عن آلية التنظيم المدينيّ واتخاذ القرار السائدة في لبنان. كذلك، يتلقّى الأستديو تكليفاتٍ مهنيّةٍ متخصّصة في مجالات التصميم الغرافيكيّ، الهندسة المعماريّة، الخدمات الإستشاريّة، التخطيط التنمويّ، والأبحاث، وذلك في محيط عملٍ مشترك.

قراءات ذات صلة

Previous
Previous

Review: “The Zabbaleen, an over-studied object?”

Next
Next

 الخرائط البديلة في العالم العربي: الفن المعاصر نموذجاً