لوين بتروح الكهربا؟”: كلمة المحرّرين”

العودة للمجلّة >

لانا جودة ومحمد أبو الرب

حزيران 2023

تنطلق فكرة العدد من سؤال كنا نبحث فيه منذ مدة حول الدور الذي تلعبه البُنى التحتية في أفكار الانتماء والاغتراب والنفور التي يكوّنها الناس اتجاه أماكن وكيانات مختلفة. ولقد وجدنا في التجارب اليومية مع البُنى التحتية مدخلاً للنظر في شؤون أوسع حول مجتمعاتنا وعلاقاتها مع نظمها السياسية والاقتصادية والبيئية، ومدخلاً للتساؤل أيضاً حول ماهية المواطنة في المنطقة العربية في القرن الواحد والعشرين. فإذا ما كانت المواطنة الفاعلة ممارسة منغمسة في ما هو يومي وروتيني، فربما يساعدنا النظر في صدور فاتورة مياه في بيروت، أو انقطاع الكهرباء في الخرطوم، أو ركوب قطار في القدس، أو بناء جسر في القاهرة أو مدينة الكويت، ربما يساعدنا في استكشاف الأدوار التي تلعبها البُنى التحتية في هذه المسائل والشؤون. وبالتالي ليس محض صدفة أن نجد في مساهمات هذا العدد أوجه شبه بين الوقائع والتجارب والمعاني المُعاشة مع البُنى التحتية على اختلاف السياقات الجيوسياسية والاجتماعية والبيئية التي يتم تناولها. إذ تتقاطع عوالم البُنى التحتية في أماكن مختلفة ليجد كثيرون أنفسهم في تجارب مشتركة رغم الحدود التي تفصلهم، وخصوصاً في ظل اقتصاد معولم لا يجد أية مصاعب في اختراق الحدود بكافة أشكالها.

قد يكون سؤال ’ماذا بعد انهيار شبكة الكهرباء؟‘ سؤالاً عن ماذا بعد فشل المشروع السياسي، دولة حديثة أم غير ذلك من مشاريع وعدت بمستقبل أفضل، وقد يكون سؤالاً أيضاً عن متى وكيف يقرر الناس أخذ زمام الأمور في صناعة القرار حول شؤونهم اليومية، وكيف يعيد الناس تنظيم علاقتهم؛ حقوقهم ومسؤولياتهم، أو بالأحرى، كيف يمكن لهم الانتقال من خيار الغرق في محلية وقبلية ضيقة يتنازع الجميع فيها على الموارد والخدمات إلى خيار استعادة فاعلية سياسية جمعية وقاعدية مؤدية إلى مواطنة محلية وكونية في آن واحد؟

إن الحديث عن "مواطنات" اجتماعية واقتصادية وبيئية، وليس فقط عن مواطنة "سياسية"- تلك المقتصرة على عضوية قانونية في الدولة الحديثة، يتطلب إعادة النظر في مجموعة الحقوق والمسؤوليات للأفراد والمجتمعات، وفي إعادة تشكيل العلاقة مع العالم والطبيعة والحيز المكاني الذي نعيشه بمقاييس وأزمنة متعددة. عند الإعلان عن هذا العدد، كنا نطمح أن ننطلق من واقع الأزمات في البُنى التحتية في المنطقة العربية لاستكشاف موضوعين مترابطين: الأول هو الدور الذي تلعبه البُنى التحتية في ممارسات نزع المواطنة عن الناس، أو اللامواطنة، إن صح التعبير، القائمة على سلب حقوق البشر مع الإبقاء على مسؤولياتهم، أو سلب الاثنين معاً! أما الثاني فهو الدور الذي تلعبه هذه البُنى في إنتاج ممارسات مواطنة أخرى أثناء اضطرار المجتمعات تطوير بُنى تحتية بديلة؛ أي تلك الممارسات الفردية والجمعية التي تُمكّن من حوكمة يومية فاعلة، وتبنى انتماءات على مستويات عدة، وتعيد صياغة علاقاتنا الاجتماعية وأدوارنا الفردية والجمعية، وتدفع للبحث وبناء معرفة من أجل الصمود وتخيل مستقبل أفضل. في محاولة الإجابة على هذه الأسئلة، ينطلق هذا العدد من نقطة أساسية وهو البحث في مدى تحكم الناس في بُناهم التحتية؛ أي إتقانهم التعامل مع الأنظمة التقنية بمستويات مختلفة وقدرتهم على إدارتها وحوكمتها وتنظيم العلاقات المجتمعية حولها، وفي مدى اعتمادهم في ذلك على معرفتهم ومواردهم المحلية.

تناقش مساهمات عدة في هذا العدد الخاص الأدوار التي تلعبها البُنى التحتية في تواصل الناس وانقطاعهم عن الأماكن، وفي رسم علاقتهم مع الحيز العام والمشترك، وفي رغبتهم بالتواجد فيه أو الانسحاب منه، وأحياناً في العودة إليه واحتلاله، شارعاً كان أم وادٍ. تنظر هذه المساهمات أيضاً في الطرق التي تمهد بها أفعال الناس لأشكال جديدة من التمكين، والتنظيم والفاعلية، والصمود، والمقاومة، والتقويض، انطلاقاً من رغبة في استكشاف ممارسات وخلق وسائل لتشكيل الذاكرة الجمعية للأماكن والحفاظ عليها، حضرية كانت أم طبيعية، معاصرة أو تاريخية، في المركز أو على الهوامش.

والسؤال حول التجارب اليومية مع البنية التحتية هو سؤال في أساسه حول العلاقة مع الطبيعة كما هو سؤال حول العلاقات في المجتمعات البشرية. إن الدور الذي تلعبه البُنى التحتية في إنتاج أنواع مختلفة من العنف التي تزيد من استنزاف الطبيعة وتهميش المقهورين، ما هو إلا دليل على الحاجة الطارئة لإعادة التفكير في علاقة البشر مع الطبيعة ومكوناتها ومواردها المختلفة، وضرورة النظر في نظمها الإيكولوجية كمصدر للإلهام ولفهم جديد للعلاقات التكنولوجية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بل ولضرورة تخيل الإنسان لحياته اليومية وبُناه التحتية ضمن نُظم الطبيعة الدورية والمتجددة بعيداً عن عقيدة الاستنزاف. نحاول في هذا العدد الخاص أيضاً طرح النقاش من جديد حول ثنائية الإنسان - الطبيعة، تلك الثنائية المصطنعة التي خلقتها الحداثة والاستعمار والتي تضع الإنسان خارج الطبيعة وليس جزءاً منها، وتوهمه بأنه قادر على السيطرة عليها وتسخيرها لخدمته.

نأمل في النهاية باستكشاف طبيعة المعرفة اللازمة لمحاولة الإجابة على كل هذه الأسئلة، تنطلق الكثير من الدراسات حول البنُى التحتية من العلاقة الثلاثية بين الطبيعة والإنسان والتكنولوجيا، وتنظر في البُنى التحتية كشبكات بيوفيزيائية وتكنولوجية وثقافية متغايرة ومتداخلة تعمل في آن واحد وعلى مستويات ومقاييس مختلفة. يستلزم هذا بالضرورة الخوض في معرفة عابرة للحقول المعرفية، تستخدم عدسات مختلفة للبحث في الطرق التي تتشكل بها البنية التحتية وتُشكِّل من خلالها واقعنا المُعاش، ونأمل أن يسهم هذا العدد الخاص في ذلك.

إن صلب عمل البنى التحتية هو الوصل والنقل والتشبيك، وقد وجدنا أنفسنا كمحررين زائرين لهذا العدد من مجلة العمران العربي وسط شبكة من المساهمين والمراجعين والمحررين ذوي خبرات متنوعة؛ شبكة منتشرة عبر أنحاء العالم تعمل بجهود طوعية وسلاسة عالية في العمل المشترك لإنتاج محتوى معرفي ناقد يتنوع بين الكتابة الأكاديمية والعمل الابداعي. هذه خطوة متواضعة للمساهمة في شكل جديد للبنية التحتية للكلمات والتصورات والأفكار. وفي حين كنا نأمل في إصدار عدد باللغتين العربية والإنجليزية، لم يكن ذلك ممكناً في ما أتيح لنا من وقت. لكننا نأمل بحشد الجهود في الأشهر القادمة لتوفير محتوى العدد بالعربية كواحدة من مسؤولياتنا كباحثين ومحررين في العمل على إنتاج محتوى قادر للوصول إلى مجتمعاتنا للمساهمة في فهم ماضي وحاضر ومستقبل بيئاتنا المبنية والطبيعية، وانطلاقاً من إيماننا بأن اللغة في النهاية بنية تحتية أساسية للمعارف المتنوعة التي نحتاجها لفهم حيواتنا اليومية.

لا بد لنا أخيراً أن نشكر جميع المساهمين في هذا العدد على كل ما بذلوه في سبيل صناعة محتوى معرفي ناقد من مواقعهم وعلاقتهم مع مواضيع وسياقات متنوعة، ولا بد أن نشكر فريق المراجعة والتحرير على الجهد والدعم في تقديم النقد والتقييم والمراجعة اللازمة كل بحسب خبرته. تلقينا 40 مقترحاً وعملنا كـ فريق لمدة عام تقريباً لنقدم لكم 16 مساهمة تتنوع بين محتويات أكاديمية وإبداعية خاضت بطرق مختلفة في المسائل التي يطرحها هذا النص.

قراءات ذات صلة

Previous
Previous

الكهرباء في المجتمع الفلسطيني في قطاع غزة: ممارسات الحياة اليومية وآليات الجَلَد والمقاومة المجتمعية

Next
Next

تمهيد: عن الالتفات إلى البنية التحتية والتفكير من خلال التعتيم