الكهرباء في المجتمع الفلسطيني في قطاع غزة: ممارسات الحياة اليومية وآليات الجَلَد والمقاومة المجتمعية

العودة للمجلّة >

أباهر السقا

حزيران 2023

صورة رقم 1 من ألبوم معرض الفنان الفلسطيني محمد أبوسل، شمبر، 2012

الكهرباء فاكهة الناس البسطاء[1]

تقدم هذه المقالة قراءة متعددة المستويات حول تأثير انقطاع الكهرباء على المجتمع الفلسطيني في قطاع غزة وعلى مجمل أنماط العيش في الحياة اليومية للناس خصوصاً في السنوات الخمس عشرة الأخيرة خلال الحصار الاستعماري الإسرائيلي للقطاع. وتتناول المقالة المحاور الأربعة التالية: أولاً، آليات الجَلَد والصمود والمقاومة المجتمعية، وتحديداً أشكال المقاومة لقطع الكهرباء كأفعال يومية جمعية وتضامنية. ثانياً، الصراعات الاجتماعية والتعقيدات الحضرية الناتجة بسبب انقطاع الكهرباء، ومدى استخدام هذا الانقطاع كمؤشر للعدالة الاجتماعية والحضرية. ثالثاً، أمثلة على التمثلات الاجتماعية حول انقطاع الكهرباء وتحليل بعض الخطابات حولها، رابعاً، كيفية تحول الكهرباء إلى موضوع للتجاذبات المختلفة المحلية والإقليمية والدولية.

ينطلق هذا البحث من مفهوم الجَلَد في مجتمع محاصَر؛ أي قدرة مجتمع ما بُعَيْد أو أثناء التعرض لحدث أو حرب أو صدمة على استنهاض قوته عبر بما يسمى بالجَلَد (Résilience/ Resilience)،[2] والذي يحمل شكلين؛ إما فردي: قدرة الفرد على تجاوز الصدمة النفسية وملحقاتها، أو جمعي: قدرة مجتمع بكامل مكوناته تجاوز تبعات الصدمة أو الهجوم من خلال المحافظة على ثقافة المقاومة المجتمعية بأشكالها المختلفة. تقدم الحالة الصادمة في المجتمع الفلسطيني في قطاع غزة مجموعة من السمات الخاصة والتي تظهر من خلال الإبقاء على آليات استمرارية هذه المقاومة وديمومتها وتكرارها باعتبارها أنماطاً من الجَلَد والمقاومة المتناقلة والعابرة للأجيال، والتي يُعبَّر عن الكثير منها في الفضاء الاجتماعي من خلال ممارسات متنوعة. ولا تعتبر ممارسة الجَلَد سمة ثابتة بل عملية ديناميكية متغيرة، وتتخذ عدة أشكال قد تكون تمكينية. تتبَّع المقالة، عبر موضوع غياب الكهرباء، أشكال الجَلَد التي يستخدمها سكان القطاع من أجل تجاوز الأزمة، وتستند إلى دراسـة ميدانية اعتمدت على إجـراء مقابلات معمقة أجريت افتراضياً مع مواطنات ومواطنين ما بين شهري تموز/ يوليو وكانون الأول/ يناير 2023، واعتمدت في جزء آخر على الملاحظة بالمشاركة للباحث خلال فترات إقامة متقطعة في مدينة غزة ما بين سنوات 2015 و2017.

الكهرباء في قطاع غزة: خلفية عامة

واحدة من المعضلات الأساسية المرتبطة بحياة السكان في فلسطين المُستَعمرة هي صلاحية البُنى التحتية والقدرة على الحصول على خدمات تُخفف من وقع سوء الحياة اليومية المستمرة منذ عقود. فشبكة الكهرباء الفلسطينية، على سبيل المثال، ليست وحدة توزيع متكاملة، فهناك عدد من شبكات التوزيع المعزولة والتي تجعل من عملية التزود بالكهرباء عملية معتمدة بشكل شبه كامل (أكثر من 90%) على "إسرائيل"، خاصة لمناطق الضفة الغربية حيث تأتي كافة مصادر الكهرباء من "إسرائيل" ما عدا كمية محدودة تستورد من الأردن لمنطقة أريحا.[3] أما في قطاع غزة، فيأتي معظم التزويد بالكهرباء من "إسرائيل" باستثناء جزء يسير تنتجه شركة الكهرباء الفلسطينية وجزء آخر يُستورد من مصر.[4]

تفاقمت مشكلة الكهرباء عند سكان قطاع غزة على وجه الخصوص على نحو غير مألوف منذ خمسة عشر عاماً، وذلك بعد الحصار الاستعماري "الإسرائيلي" على القطاع الذي زاد من معاناة السكان وفاقم الصعوبات على كل الصُعد الصحية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. أدى الحصار إلى خلق صعوبات في قطاعات التعليم وفي القطاعات الاقتصادية، علاوة على الحصار البري والبحري والجوي وتقييد حركة البضائع والأفراد والتحكم حتى بعدد السعرات الحرارية للبقاء على العيش.[5] ضمن هذا السياق، عمدت سلطات الاستعمار على قصف مولدات الكهرباء وتقليص المواد المشغلة وخطوط الإمدادات لعمل شركات الكهرباء. وزيادة على ذلك؛ منعت الأخيرة تزويد القطاع بالكهرباء تارة تحت ذرائع عدم تسديد الديون المستحقة للشركات "الإسرائيلية" الموردة، وتارة أخرى لتعطل الإمدادات المولدة للكهرباء.

يحتاج قطاع غزة الى ما يقارب 450 إلى 600 ميغاوت من الكهرباء بينما تبلغ نسبة العجز في الكهرباء ما يقارب نحو 50 بالمائة. ويعتمد القطاع على ثلاثة مصادر؛ فلسطينية وهي محطة توليد الكهرباء في غزة بنسبة 60 الى 70 ميغاوات، وخطوط الكهرباء الإسرائيلية بما يقدر بـ 120 ميغاوت والخطوط المصرية بما يقدر ب 27 ميغاوت. وتعاني جميع المناطق في القطاع من تقطع التيار الكهربائي، حيث يتم جدولة إمداد الكهرباء بين فترات متباينة وتتراوح فترات قطع الكهرباء ما بين أربع ساعات إلى ست عشرة ساعة. وبحسب بعض الإحصائيات هناك ما يقارب من 70 بالمائة من السكان ممن لا يستطيعون دفع فواتير الكهرباء بسبب الصعوبات الاقتصادية التي يواجهونها.[6]

أدى قطع الكهرباء نتيجة للهجمات الاستعمارية "الإسرائيلية" على محطات توزيع الكهرباء في الأعوام 2006 و2014، وكنتيجة للحصار وفرض القيود على مدار سنوات طويلة على استيراد قطع الغيار والمعدات والوقود، إلى تحول الكهرباء إلى معضلة المعضلات للسكان. وقد دفع انقطاع الكهرباء ونقصها بالكثير من الأسر إلى اللجوء لمصادر أخرى للطاقة والإنارة؛ الأمر الذي فاقم من المعاناة وعرض الناس للخطر وفاقم من مشاكل التلوث البيئي ومن وقوع كوارث صحية مختلفة، حيث ذكرت بعض المصادر[7] أن انقطاع الكهرباء ولجوء العائلات لوسائل بدائية بديلة كالشموع و"الشمبر"[8] والمولدات بالسولار قد تسبب بوفاة ثلاثين طفلاً بفعل اندلاع حرائق أو الاختناق. كما أثَّر شح الكهرباء على تقديم الخدمات الأساسية وعلى العديد من الخدمات الصحية كتصريف المياه العادمة بسبب توقف عمل مضخاتها إضافة إلى مضخات المياه.

ولا يمكن إعطاء خلفية عامة عن وضع الكهرباء في قطاع غزة دون التطرق إلى السجال السياسي بين طرفي إدارة الانقسام في حركتي فتح وحماس في قطاع غزة، إذ تحوّل موضوع الكهرباء منذ أكثر من خمسة عشر عاماً إلى محط سجال ومصدر صراع بين الفرقاء. حيث تتهم حركة فتح حركة حماس بافتعالها مشكلة الكهرباء لإبقاء حالة التضامن العالمية مع قطاع غزة وللتأكيد على قسوة الحصار كونها إحدى تجلياته الظاهرة. وتشير فتح إلى أن ثمة فروقات هائلة بين ما يعانيه المواطنون بسبب شح المواد المشغلة للكهرباء وما ينعم به مسؤولو السلطة في غزة من كهرباء، ما يدل على أن انقطاع الكهرباء على القطاع هو بسبب سوء إدارة حركة حماس للقطاع. وفي المقابل، تتهم حركة حماس حركة فتح والسلطة في رام الله بالمشاركة في الحصار على قطاع غزة بسبب عدم تسديد فواتير الكهرباء والمطالبة بدفع الفواتير من أموال الجباية/المقاصة لتأليب الناس على حركة حماس وخلق صراعات ضد السلطة الحاكمة عبر أتباع حركة فتح. في حين يتهم مواطنون آخرون شركة الكهرباء الفلسطينية بالفساد والمحسوبية وبمسؤوليتها عن الإبقاء على معاناة الناس لجني المزيد من الأرباح والتربح من الاحتكار.

الجَلَد في مجتمع محاصر: مقاومة قطع الكهرباء كفعل يومي جمعي وتضامني

كان الشاعر الفلسطيني الراحل معين بسيسو يقول في الخمسينات أن الكهرباء هي "فاكهة الناس البسطاء"، أما في عام 2023، لم تعد الكهرباء بمثابة فاكهة للبسطاء بل جزءاً من "الرفاهية" وذلك بسبب الحصار وتبعاته المفروضة على سكان قطاع غزة. ومن نافلة القول، أن الكهرباء في عالم اليوم مثل الماء حيث أنها المحرك الأساسي للهواتف والأجهزة وللإنترنت والتي أضحت أدوات ملازمة للحياة اليومية المعاصرة للناس؛ ولذا فإن غيابها يمثل بالنسبة للكثير من المبحوثين عيش حيوات غير طبيعية وغير اعتيادية مجردة من الحد الأدنى للحقوق. أما بالنسبة للأجيال الجديدة التي اعتادت التعامل مع العوالم الافتراضية كأدوات تواصل اجتماعية وأدوات للتسلية والمتع الرئيسية في حياتهم؛ فيشعرها غياب الكهرباء بالعزلة عن العالم وبالعيش "خارج الحداثة". [9]

كما هو معروف، فإن التيار الكهربائي هو أحد مصادر الدفء في الشتاء والحصول على مياه الاستحمام والتبريد في فصل الصيف ولاسيما في منطقة حارة ومشبعة برطوبة البحر كما في قطاع غزة. تُظهر لنا المقابلات المتعددة والملاحظات العينية محاولة المجموعات الاجتماعية المختلفة تجاوز أزمة الكهرباء من خلال التأقلم مع حضور الكهرباء 12 ساعة وغيابها 12 ساعة يومياً. يؤثر هذا على إيقاع الحياة وعلى الدورة اليومية للعمل من غسيل، وتنظيف، وتشغيل الأجهزة، وكي الملابس، وتصفيف الشعر، الخ. وتتحول وتيرة العمل إلى الليل بدلاً من الصباح أو العكس، ويعمل الناس على تغيير ممارساتهم، ويُعيد بعضهم برمجة أوقات النوم والعمل. ينعكس هذا أيضا على توفر المياه، حيث تقوم شركة الكهرباء بإعادة التيار الكهربائي في أوقات تكون فيها المياه مقطوعة، ما يفاقم من مشكلة نقص المياه أيضاً ويدفع الناس للتأقلم مع انقطاع الكهرباء والمياه في آن واحد. وتباعاً لذلك يتعقد إيقاع الحياة فيتبدل ليل قطاع غزة بنهاره، ويصبح مولد الكهرباء عنصراً أساسياً في الحياة اليومية الجديدة.

ونظرا لأن الكهرباء هي إحدى الحاجات الأساسية للحياة المعاصرة، فقد اختلق المجتمع الغزي المحاصَر مجموعة من الأدوات والميكانيزمات لتجاوز أزمة غيابها، والتي تعتبرها المقالة أنماطاً من الجَلَد والمقاومة المُنعكسة على أشكال الإنتاج اليومية وصيرورة العلاقات الاجتماعية في الأحواز الخاصة والعامة. ويُعبَّر عن هذه الأشكال من المقاومة والجَلَد المختلفة في الفضاء الاجتماعي بحسب نوعية الممارسة الاجتماعية للفضاء الاجتماعي نفسه كما يراها فيري (Ferrier)؛[10] بمعنى أن كلّ فضاء يستقي دلالته من استعمال شاغلٍ له، وتكون الممارسة الحيزية جانباً من الجوانب التي تخلق تَمَثّل الفاعل لفضائه، وهو تَمَثّل يتعاطاه الفرد بعقله وواقعتيه وخياله وبذاكرته التي تربطه وتحبكه بالجماعة عبر الفضاءات الجمعية. وما نقصده هنا أن المجتمع يستمد من أدوات وميكانيزمات التكيف المجتمعي المقاوم الاستعدادات التمكينية للصمود بكل أشكاله، ليس فقط لأنها تنسجم مع خطاب سياسي مهيمن، أو لأنها تعمل تبعاً لتوجه أيديولوجي سائد، أو تكيَّفاً مذهبياً مع مشروع سياسي بل لأنها، بالإضافة إلى كل ذلك، مرتبطة باليومي وبحياة الناس اليومية. ونقصد هنا المقاومة المجتمعية بكل أشكالها الجمعية والفردية؛ أي الممارسات الفردية والجمعية التي يعمل الأفراد بها وعبرها في هذا الفضاء الحيزي الاجتماعي المتميز بالحرمان وشح الخدمات لاستحداث أشكال من المقاومة والتمكين والتكيف الاجتماعي مع الحاضر، أو إنكاره، أو تحدّيه أو التأقلم معه. إحدى هذه الأشكال هو التأقلم مع غياب الكهرباء واعتباره نمطاً جديداً مولّداً لتغييرات في الممارسات الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع الغزي المحاصَر.

في عمل للفنان محمد أبو سل بعنوان " شمبر" العام 2012،[11] يتناول أبوسل ثنائية الحضور والاختفاء من خلال تركيزه على الضوء وحضوره في الحيز العام في مقابل العتمة؛ حيث ينقل للمشاهد عبر صوره الفوتوغرافية حركات التجمع الإنساني وعلاقتها بالتأنس واستمرارية الحياة في الضوء في مقابل علاقة العتمة بالعزلة و ما تمثله من الشعور بالوحشة والخوف والشك باعتبارها النقيض لكل ما هو اجتماعي. يتجمع الناس في صور أبو سل لمشاهدة الأخبار أو لمتابعة مباراة أو للتأنس الاجتماعي والرفقة، أو لأي حاجة تستدعي التحلق والجلوس في الضوء وحول مصدر الكهرباء. ويُظهر لنا الفنان كيف يجعل الضوء العلاقات الاجتماعية أكثر حميمية بسبب طغيان العتمة خارج دائرة الضوء، حيث تتحول منطقة الضوء (مصدر الكهرباء) إلى بؤرة اجتماعية كما تُظهر لنا الصور، منتجة بذلك فضاءات اجتماعية جمعوية جديدة. تجد هذه التمثلات والتخيلات مكاناً لها في المقابلات العديدة التي أجريت لهذا البحث. حيث يتحدث عدد من الأفراد عن كيف يمثل حضور الكهرباء للناس مصدراً للجمعوية الحيزية الجديدة فيجتمع الأفراد بحكم التحلق حول دائرة الضوء في غرفة واحدة، أو حيز فراغي واحد، وتضيق بفعل ذلك المساحات الفيزيائية والاجتماعية بين الأفراد، بل ويسرد الكثير من المبحوثين أن غياب الكهرباء خاصة في أوقات البرد والشتاء يجعل العلاقات الاجتماعية أكثر دفئا على المستوى الإنساني. من جهة أخرى، تتحكم الكهرباء بالترتيب والتخطيط للمناسبات العائلية فيؤخذ القرار حول استقبال المهنئين أو الضيوف في البيوت، أو القيام بالزيارات العائلية وفقاً لتوفر الكهرباء أو عدمها.

صورة رقم٢. من ألبوم معرض الفنان الفلسطيني محمد أبوسل، شمبر، 2012

لا يخلق المولد فضاءات اجتماعية فحسب، بل أنماط تضامن اجتماعي أيضاً، حيث تتضامن العائلات فيما بينها للتغلب على مشكلة انقطاع الكهرباء؛ فيتم تبادل مولدات الكهرباء بمناسبة إقامة الأفراح أو بيوت العزاء، أو من أجل قضاء حاجات خاصة، الخ. فتضحى هذه المولدات مواد نفعية تباديلة ذات معنى اقتصادي-اجتماعي. تعمل الناس على أقلمتها مع قيم ثقافة التعاون والتضامن الاجتماعي بين الجيران والأهالي ضمن متطلبات العيش الحالية، أي أن مولدات الكهرباء تحل اليوم محل "البوابير" التي كان يتبادلها الناس في منتصف القرن الماضي. ينقلنا هذا الحديث بدوره إلى موقع المولدات بشكلها الحالي بين الخاص والعام؛ أي كممتلك خاص يمكن استخدامه بشكل جماعي؛ حيث يعمل بعض الجيران على جمع الأموال لشراء مولدات مشتركة يتم الانتفاع بها جماعيا.

تظهر لنا المقابلات أشكالاً لا حصر لها من ممارسات التضامن الاجتماعي بين الأهالي نورد هنا بعضاً منهـا: تُكمل سيدة طبختها في منزل الجيران بسبب انقطاع الكهرباء عندها وتوفرها عندهم؛ وتمنح عائلة ابن الجيران حيزاً في بيتهم لإجراء لقاء عمل عبر تطبيق زووم؛ ويرسل أحدهم حاسوبه المحمول للشحن إلى بيت جيرانه لتوفر الكهرباء عندهم؛ ويمد أحدهم سلك كهرباء من مولد كهرباء الجيران إلى بيته؛ وتستقبل عائلة أبناء الجيران للدراسة عندهم تحضيراً لامتحان شهادة الثانوية العامة (التوجيهي)؛ ويحرص الجيران على مد الكهرباء ومنح الأولوية لبيت عائلة لديها أفراد من ذوي الاحتياجات الخاصة. وبُعيْد دخول أشكال جديدة من الأدوات للاستعاضة عن الكهرباء عوضاً عن المولدات أبقت الناس على استمرارية منطق التضامن الاجتماعي والتكافل والذي بات يأخذ أشكالا جديدة: فمثلاً، تظهر لنا المقابلات أن اللجان الخيرية في الأحياء الشعبية أصبحت تمنح أجهزة "الليد"، والبطاريات المضيئة عوضاً عن الإعانات الإغاثية للعائلات المحتاجة. كذلك تقوم بعض العائلات الميسورة بإهداء أجهزة بديلة لجيرانهم تعويضاً عن انقطاع الكهرباء عندهم. وعلى نفس النهج، تقوم بعض الجمعيات الأهلية بتركيب لوحات شمسية لتوليد الطاقة والإنارة مجاناً في البيوت التي لديها حالات مرضية أو أفراد من ذوي الاحتياجات الخاصة.

غياب الكهرباء كمصدر للصراع الاجتماعي والتعقيدات الحضرية

عمل تقطُّع الكهرباء من جهة ثانية على تعقيد حياة الناس في المجتمع الفلسطيني في قطاع غزة، فكما يؤثر غياب الكهرباء في توليد أشكال جديدة من الأحواز الجمعية والممارسات التضامنية، فقد يصبح أيضاً مصدراً للصراع الاجتماعي وفي خلق المزيد من التعقيدات في البيئة الحضرية. ويعتبر مولد الكهرباء أحد أهم الفاعلين في هذا الشأن من حيث انزعاج البعض من الأصوات الصادرة من مولدات الكهرباء، أو من تشغيلها في أوقات غير مناسبة، أو من الروائح والانبعاثات الناتجة عنها. وتصبح المولدات سبباً لنشوب صراعات بين أصحاب العمارات والمستأجرين حول مكان وضع المولدات وحق الانتفاع بها؛ وبين بعض السكان وبعض حراس العمارات بسبب التمييز من طرفهم في توفير الكهرباء مقابل أموال إضافية من بعض العائلات على حساب عائلات أخرى؛ وبين السكان وبعض أصحاب المحلات التجارية والمنشآت التي يتشاركونها مع السكان بنفس البنايات أو بجوارها. ونظراً لكثافة الأحياء السكنية وضخامة العمارات والأبراج السكنية التي تمتاز بها أحياء مدن قطاع غزة، فإن هذه الصراعات الاجتماعية تتجدد باستمرار بسبب شح المولدات ونقصها مقارنة بعدد السكان وغياب آليات توزيع واضحة ومقننة، مما يفسح المجال أمام التأويل عن خدمات يحصل عليها سكان دون آخرين وفقا لمعايير لها علاقة بالمحسوبية، والواسطة، والزبائنية، والحزبية الخ، بحسب المبحوثين.[12]

يخلق انقطاع الكهرباء في المنزل بدوره توترات اجتماعية بين أفراد العائلة حسب طبيعة أعمالهم واحتياجاتهم. فعلى سبيل المثال، ذكرت مبحوثة نشوب خلاف بين عائلتها وعائلة أخت زوجها نتيجة عدم استطاعة الأخيرة دفع المستحقات المتراكمة لصالح صاحب مولد الكهرباء واضطرارهم هم لدفعها بسبب تراكم الديون على عائلة أخت الزوج. وأوضحت مبحوثة أخرى حدوث شجارات بين الجيران في البناية الواحدة حول حصص المياه نتيجة وصول الماء لبعض العائلات بسبب توفيرهم للمضخات الكهربائية على حساب عائلات أخرى لا تمتلك هذه المضخات. في حين أوضح آخرون حدوث صراعات في بعض الأحيان حول قضايا تقنية على سبيل المثال لا الحصر: عدم الالتزام باتفاق مسبق حول مد سلك كهربائي (تزويد الكهرباء) من منزل إلى آخر شريطة عدم تشغيل أجهزة تستهلك كمية عالية من الكهرباء، مما يتسبب ذلك بأعطال فنية وأحياناً حرائق وتنشب شجارات بين الجيران على أثره.

وعلى صعيد آخر، ذكر العديد من المبحوثين موضوع عدم انقطاع الكهرباء عن المساجد، الأمر الذي خلق تباينات في تقييم المبحوثين حوله، فيقول ا. س.:[13]" المساجد لا تنقطع عنها الكهرباء بسبب النفاق لحركة حماس واستغلال المشاعر الدينية للقول أن المهم هو توصيل الكهرباء للمساجد أما الناس فهم غير مهمين." بينما ترى المبحوثة ن. ج.:[14] "نحن مجتمع متدين ومحافظ والمساجد وأداء الصلاة فيها أهم من أي نشاطات أخرى ولذا لا أمانع في ذلك." قد تُعزى هذه التباينات إلى عدة مبررات: أولها، الحساسية الدينية لدى السلطات في القطاع والتي تعتقد أن وصول الكهرباء للمساجد أولوية مقارنة بوصولها للسكان، و ثانيها، أن بعض السكان الذين يقطنون بجوار المساجد يقومون بسحب أسلاك من المولدات لإنارة منازلهم. تعكس الآراء السابقة السجالات المجتمعية حول السياسات المتبعة، والمنطق الذي يحكم إيصال الخدمات للسكان وكذلك السجالات حول أحقية السكان بالانتفاع من الكهرباء المتوفرة للمساجد مجانيا.

ويؤثر غياب الكهرباء على الحياة الحضرية في مستويات عدة، منها العيش في الأبراج السكنية العالية، أي العمارات ذات الطوابق الكثيرة المرتفعة والمتشعبة (الأبراج) والتي قد يضم عدد قليل منها آلاف السكان، وهو نمط بناء منتشر في مدن القطاع. إن غياب الكهرباء في هذا السياق يعني إجبار السكان على إيجاد طرق بديلة للعيش في عمارة سكنية إحدى ركائزها الكهرباء؛ فهي التي تعمل على تشغيل المصاعد، ووصول المياه إليها عبر تشغيل المضخات. تمس هذه الصعوبات الحياتية عديد العائلات ولكنها تمس بالمقام الأول فئات كبار السن والمرضى وذوي الاحتياجات الخاصة وساكني العمارات الضخمة. وقد دفعت مشكلة تقطع الكهرباء بمجموعة من المقاولين والمهندسين في قطاع غزة إلى تصميم إنشاءاتهم الجديدة لتحتوي على أماكن مخصصة لاستيعاب مولدات الكهرباء كأنماط معمارية جديدة مواكبة لمشكلة الكهرباء المزمنة. وكذلك الأمر بالنسبة للتصميمات الداخلية للشقق الداخلية فقد أصبحت تتضمن أماكن مخصصة في البناء الداخلي تسمح باستيعاب البطاريات والمولدات داخل الشقق.

لم يخلق المولد حيزاً وظيفياً جديداً فحسب، بل أضاف أيضاً طبقة جديدة إلى ضجيج المدينة. فإذا ما اعتبرنا الإزعاج بشكل عام شكلاً من أشكال اللحظة الحضرية وفقاً لجوفمان (GOFFMAN)،[15] فقد أضيف إلى الضجيج المدينى الاعتيادي في مدينة غزة (الإعلان من خلال مكبرات الصوت، المناداة للبيع عبر عربات وسيارات الباعة، الإعلان عن فعاليات، الخ) أشكالاً جديدة تصدرها مولدات الكهرباء المتناثرة في الأزقة والشوارع ومداخل البنايات والبيوت. يترافق هذا الضجيج الجديد بدوره مع ضجيج آخر مستمر منذ أكثر من خمسة عشر عاماً بسبب تحليق الطائرات الاستعمارية "الإسرائيلية" الاستطلاعية- المسماة محليا بالزنّانة- بشكل شبه دائم في سماء القطاع، ليلاً نهاراً، حيث تصوِّر وتجمع المعلومات وتقوم بعمليات اغتيال لمواطنين، وتبث الخوف والرعب والشك والشعور الدائم بالخضوع للمراقبة؛ الأمر الذي يجعل الحياة اليومية في قطاع غزة حياة قوامها المراقبة والعقاب الدائم؛ سواءً كان في الأحواز المدينة أو في المناطق الزراعية؛ وتجعلها طاردة وصعبة على سكانها. يقول أحد المبحوثين ي. ن.:[16] " لديّ مشاكل حقيقة مع النوم والقلق ولدى مشاكل نفسية بسبب الصداع والضجيج الناتج عن المولدات والزنانة، هذا الشعور يجعلني في حالة ضغط مستمرة ورعب وأرق نفسي." ومن نافلة القول أن قطاع غزة يتعرض إلى عمليات قصف شبه مستمرة وعمليات تفريغ للهواء من قبل الطائرات الحربية "الإسرائيلية" مما يتسبب بتصدعات صوتية متلاحقة تبث الرعب والخوف، علاوة على الخسائر في الأرواح والممتلكات. يترافق كل هذا مع ما تنشره منظمة الصحة العالمية سنوياً من تقارير عن الآثار الصحية والنفسية الناجمة عن الضجيج في العواصم والمدن الكبرى مطالبةً بسن قوانين وسياسات للحد من هذه الآثار على السكان.

الكهرباء كمؤشر للعدالة الاجتماعية وللتراتب الاجتماعي-الاقتصادي

يعتبر عدم القدرة على الحصول على الكهرباء معياراً للاعدالة الاجتماعية وللامساواة، وشكلاً من أشكال التراتبيات الاقتصادية الاجتماعية الجديدة في المجتمع الفلسطيني في قطاع غزة. حيث تظهر لنا المقابلات[17] أن الحصول على الكهرباء مرتبط بعدة محددات منها مكان الإقامة، حيث يتبدى لنا ومن بعض الملاحظات العينية السابقة للباحث، أن ثمة فروقات في حصول الناس على الكهرباء تبعاً لمكان السكن؛ حيث تصل الكهرباء إلى بعض الأحياء بوتيرة أكبر من أحياء أخرى. تقول مواطنة في إحدى المقابلات: [18] "الأحياء التي يسكنها مسؤولون تصل إليها الكهرباء أكثر من أحياء أخرى." كذلك الحصول على "نعمة الكهرباء" كما يقول ن.ع.: [19]"مرتبط بقدرة العائلات على دفع فواتير الكهرباء"، وهذا ينسحب أيضا على القدرة على اقتناء وشراء المولدات الأخرى للطاقة. كما أضحى الحصول على التيار الكهربائي اليوم مرتبطا بآلية جديدة مرتبطة بالسياسات النيوليبرالية القائمة على السماح للأفراد بالحصول على الخدمات مقابل الدفع مسبقاً، الأمر الذي أدى الى تفاقم صعوبات العائلات الفقيرة، حيث لم تعد شركات الكهرباء تتساهل مع تراكم الديون عليها. تقوم هذه الأنماط الجديدة من الاستهلاك -أى الحصول على الكهرباء مقابل الدفع المسبق- على محاججة مفادها أنه "يجب الاستهلاك وفقاً للإمكانيات المادية للأفراد"، أو بذرائع الترشيد والعقلانية، ولكنها في الواقع المُعاش مصوغات للحد من قدرة العائلات الفقيرة من الحصول على الكهرباء وجعلها حكراً على من يمتلك المال. يتبين لنا من المقابلات أن عملية توزيع الكهرباء تفاقم بدورها من اللامساواة المناطقية بين مدينة غزة وباقي مدن وقرى قطاع غزة؛ وكذلك بين أحياء معينة وأحياء أخرى؛ وبين المدن والمخيمات. تعكس هذه الملاحظات سابقة الذكر المعضلة البنيوية لعلاقة المركز بالأطراف من جهة، والعلاقة بين المدينة وشبكة الخدمات الحضرية المتباينة من جهة أخرى.

وعلى مستوى آخر، ساهم انقطاع الكهرباء المستمر في خلق أسواق وتجار جدد، واستثمر بعضهم في شراء مولدات خاصة بهم لمد خطوط الكهرباء لمن يرغب شهرياً مقابل المال. بهذا تحولت عملية بيع الكهرباء إلى تجارة رابحة بالنسبة للبعض وفتحت أسواقاً جديدة للاستيراد والمتاجرة في المولدات والأجهزة المضيئة ووسائل الإنارة المختلفة الفعالة خلال قطع الكهرباء، ووفرت هذه الأسواق بدائل عن الأجهزة التقليدية التي تعمل بالكهرباء للاستخدامات البيتية وللمنشآت التجارية والاقتصادية. كما بدأ التجار مؤخراً بشراء بضائع جديدة لتلبية حاجة السكان من الطاقة وتعويض انقطاع الكهرباء عبر استيراد وبيع البطاريات المشحونة، والـ يو بي إس (UPS)،[20] والألواح الشمسية، لتعويض انقطاع الكهرباء. وخلق انقطاع الكهرباء أعمالا لشرائح جديدة من العمال كخدمات توصيل الحاجيات (بضائع، حاجيات منزلية، مياه الخ) إلى الطوابق العليا في البنايات الشاهقة مقابل مبالغ مالية. خلق انقطاع الكهرباء إذن أسواقاً جديدة وحاجيات اجتماعية اقتصادية جديدة.

تمثّلات وخطابات اجتماعية جديدة عن الكهرباء

يقدم المبحوثون مجموعة من التمثّلات المرتبطة بانقطاع الكهرباء كاستمرارية المعاناة عبر الزمن، التي تظهر وكأنها تجعلها مجمّدة في مِخيالهم، فيقول س. ع.:[21] " يذكرني انقطاع التيار الكهربائي في قطاع غزة بأيام اللجوء الأولى حيث كنا ندرس دروسنا المدرسية تحت ضوء عمود الكهرباء في الشارع؛ حيث كانت غالبية البيوت بلا كهرباء وكان طلبة المدارس يتجمعون قرب مصادر الكهرباء .... المشاهد الحالية تذكرنا بحالنا حين كنا ندرس على أضواء أعمدة كهرباء الشوارع؛ نتحلق تحتها". هنا لدينا تناقل لشعور معاناة عابر للأجيال مع تخيلات تلغي الزمن وسياقه وتستحضر المعاناة والتي تبدو وكأنها متناقلة عبر الأجيال وعابرة للأزمنة؛ وكأن الزمن توقف منذ سنوات الخمسينيات. ومن جانب آخر، يتندر أحد المبحوثين[22] بحس فكاهي أسود قائلاً: "طالما حلمت أن أسافر لبيروت ولم أستطع..... أشعر الآن بأننا توحدنا مع بيروت لأننا نحن وهم في الهوى سوا.... كلما سمعت عن مشاكل انقطاع كهرباء في منطقتنا العربية... شعرت بأننا كلنا في البحر ماء، وكأننا جميعاً في المنطقة نعاني من نفس المشكلات والويلات رغم الفروقات في ظروف العيش، أشعر أن المعضلات تتشابه عند المواطنين العرب".

لموضوع الكهرباء وغيابها تأثيرات متنوعة على المخيال الاجتماعي، وهو محط سجال حجاجي ينظر عديدون فيه -كقضية تقنية- من منظورات ثقافية وأخلاقوية وسياسية. تستخدم شركة الكهرباء في قطاع غزة مثلاً، وكما في مناطق أخرى في فلسطين، خطابات دينية مثل وضع يافطات في الشوارع عليها شعارات مثل: "سرقة الكهرباء حرام شرعا"، و"إن الحصول على الكهرباء بلا مقابل جرم شرعى"، و"لا تأكلوا الحرام"، و" لا تطعموا اولادكم الحرام"، الخ. ترتبط هذه التمثلات الدينية بالخطاب الديني العام باعتباره خطاباً مؤطراً، حيث تستخدمه الجهات المختلفة بما فيها الشركات النفعية التي تحرم سرقة الكهرباء ولا ترى في تزويد الناس المحتاجة عملا خيرّاً.

من جهة أخرى، يمتلك العديد من الناس تصورات متنوعة حول موضوع الكهرباء محاولة منهم لتفسير شكل العيش وفقا لمواقفهم وتصوراتهم السياسية الأيدولوجية. مثلاً، يُحدثنا أحد المواطنين من المؤيدين لحركة فتح غ. ا.: [23] "إن عيش الناس في العتمة مرتبط بالظلمة التي يعيشونها، فهم يعيشون اجتماعيا وفكريا في ظلمة حماس باعتبارها تبث أفكار ظلامية." ونجد ما يقابل هذه التصورات عند المواطنين المؤيدين لحماس فيقول مثلا ص. ن.:[24] "بأن صعوبة العيش هي بسبب ظلم فتح والسلطة لقطاع غزة ولسكانه الذين اختاروا خيار المقاومة وخيار الإسلام وخيار حماس ولذا يجري الآن تدفعيهم الثمن وبمساعدة من العالم المتآمر." وهكذا تُستخدم محاججات عدة لإيجاد جهات تتحمل المسؤولية، وفي هذه الحالة يتم استخدام خطاب أخلاقوي عوضاً عن الحديث عن مشكلة بنيوية لها علاقة بعدم القدرة على توفير الخدمات للمواطنين والتي تجتمع بها عوامل عديدة عملت على تعطيل سبل الحصول عليها.

موضوع الكهرباء خاضع لسياسات إقليمية ومحلية

أضحى موضوع الكهرباء واحداً من المعضلات الأساسية في قطاع غزة، ولم يعد مجرد تفصيل تقني له علاقة بوصول الخدمات للناس، بل بات موضوعاً يحمل أبعاداً جيوسياسية ويتدخل فيه العديد من اللاعبين المحليين والدوليين (تركيا ومصر وقطر). وكذلك فإن توفير الكهرباء أو عدمها بات جزءاً من عملية الابتزاز والمقايضة والمرتبطة بإدارة الصراع مع السلطات الاستعمارية" الاسرائيلية"؛ ويمكن اعتبارها أيضاً شكلاً من تجاذبات علاقات القوة بين القوى الفلسطينية المتصارعة (حركتي فتح وحماس). فقد تحول تزويد الكهرباء لقطاع غزة إلى ورقة ضغط أو "مكسب" كما حدث بعيد التهدئة بين السلطات الاستعمارية " الإسرائيلية" وحركة حماس وبُعيْد الحروب "الإسرائيلية" على قطاع غزة في الأعوام 2012 و 2014 و2019. بعد هذه الحروب، عملت كل من قطر وتركيا إلى التدخل في أزمة كهرباء قطاع غزة، وقدمتا التبرعات للمساهمة في توفير الكهرباء. فعلى سبيل المثال، أعلن أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني في كانون الثاني 2017 أنه سيتحمل كلفة توفير الكهرباء لقطاع غزة بشكل عاجل لمدة ثلاثة أشهر، وصرح على إثرها رئيس لجنة إعادة إعمار غزة محمد العمادي أن الدوحة ستبدأ فوراً بتسديد نحو أربعة ملايين دولار أميركي شهرياً لمدة ثلاثة أشهر لحساب السلطة الفلسطينية. ولاحقاً، دعا من جهته أمير قطر إلى ضرورة إيجاد صيغة للتعاون الدولي لدراسة مشكلة الكهرباء في غزة، وتقديم مقترحات لحلها بصورة جذرية. وفي الفترة ذاتها (كانون الثاني 2017) صرحت حركة حماس بأن دولة تركيا قد وافقت على إرسال كميات من الوقود لتزويد محطة الكهرباء في قطاع غزة، كمساعدة منها في معالجة الأزمة.[25]

وعقب التفاهمات التي جرت بين "إسرائيل" وحركة حماس برعاية مصرية وأممية العام 2019، وبعيد الهجوم على قطاع غزة؛ تكفلت دولة قطر بدفع 12 مليون دولاراً شهرياً[26] ثمناً للوقود الصناعي اللازم لتشغيل محطة توليد الكهرباء في غزة، شريطة أن يجري ذلك دون تدخل حركة حماس وبإشراف الأمم المتحدة وبواسطة السلطة الفلسطينية. في عام 2021 تم الاتفاق بين السلطة الفلسطينية و"إسرائيل" ودولة قطر على إنشاء مشروع للكهرباء يعمل بالغاز الطبيعي؛ حيث يقول رئيس سلطة الطاقة ظافر ملحم[27] في مقابلة صحفية بهذا الخصوص: "بعد خمس سنوات تنتهي أزمة الكهرباء في غزة، الآن نعمل مع إسرائيل والاتحاد الأوروبي، على مشروع مسار خط أنابيب الغاز لمدّ شركة إنتاج الطاقة به، وهذا يكلف 100 مليون دولار". إذن، الكهرباء ليست مجرد أداة خدماتية بل هي جزء من المفاوضات السياسية بين الفرقاء، وقضية ذات أهمية كبرى. ويظهر هذا عبر بيان حول انقطاع الكهرباء في القطاع أصدره المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان[28] والذي يعبر فيه عن قلقه من هذه التجاذبات وأثرها على تعطيل حق الناس بالكهرباء فيقول البيان: " إذ يشدد أن قطاع غزة ما زال اقليماً محتلاً، ويترتب على سلطات الاحتلال مسئوليات تجاهه... فإنه يطالب السلطات المحتلة بالوفاء بالتزاماتها القانونية تجاه سكان القطاع المدنيين، كونها سلطات محتلة بموجب قواعد القانون الإنساني الدولي، والعمل على كفالة وصول كافة الخدمات الأساسية الضرورية اللازمة لحياة سكانه، بما في ذلك إمدادات الوقود اللازم لإعادة تشغيل محطة كهرباء غزة والطاقة الكهربائية. كما يطالب المركز الأطراف المسئولة عن إدارة ملف الكهرباء في غزة ورام الله إلى سرعة حل الأزمة الحالية لتجنيب القطاع المزيد من التدهور، ويحذر من العواقب الوخيمة المترتبة على استمرار الأزمة على كافة القطاعات الحيوية، بما فيها الخدمات الأساسية التي يحتاجها 2 مليون فلسطيني من سكان القطاع، كإمدادات مياه الشرب، تعطل المرافق الصحية، بما فيها المستشفيات والمراكز الطبية وعمل محطات الصرف الصحي وقطاع التعليم."

أدت أزمة الكهرباء إلى تنامى شعور الناس بالإحباط وبصعوبة العيش وزيادة الصعوبات على كل الصعد الفردية والجماعية. هذا الحرمان أفضى الى اندلاع مظاهرات صاخبة في القطاع وخاصة في مخيم جباليا في شمال قطاع غزة، حيث تظاهر آلاف المواطنين للاحتجاج على نقص الكهرباء لعدة أيام وجرى تفريقها وقمعهما بالقوة.[29]

خاتمة:

في محاولة للإجابة على تساؤل عنوان العدد: الكهرباء لمن؟، يظهر لنا أن توفر الكهرباء وعدم وصولها للناس في قطاع غزة دفع بهم إلى تخليق آليات تكيّف مقاوم مع هذا الغياب، فظهرت أنواع جديدة من التضامن الاجتماعي بالاعتماد على شبكات اقتصادية واجتماعية منغرسة مجتمعيا وأدت الى ولادة أشكال جديدة من التعايش الاجتماعي-الاقتصادي للأهالي مع نقص الكهرباء الدائم. ولَّد انقطاع الكهرباء صراعات اجتماعية عديدة نتيجة لتحول الكهرباء إلى أنماط استهلاك جماعية تغيب عنها قواعد الاستفادة المشتركة وضوابطها. وتُظهر الدراسة أن الكهرباء ليست بمتناول كل الناس، وأن ثمة سوء توزيع ولاعدالة ولامساواة في الحصول على الكهرباء، بعضها بنيوي وبعضها الآخر لها متعلق بالسياسات العامة. وبحسب العديد من المبحوثين، يتفاوت حجم الاستفادة من الكهرباء بالنسبة للسكان؛ بسبب تحكم واحتكار فئات محددة ومتنفذة لقطاع الكهرباء. ومن جهة ثانية، فاقم الحصار الاستعماري" الإسرائيلي" على قطاع غزة وحرمانه من الكهرباء، إضافة إلى الصراع بين الفرقاء المختلفين المحليين والدوليين، من معاناة المواطن اليومية وجعل الحياة في قطاع غزة في غاية الصعوبة دافعة المزيد من المواطنين إلى الهجرة من قطاع غزة. أما فيما يخص البدائل فلا حلول تلوح بالأفق؛ بالتوازي مع استمرارية الأزمة تنشأ دعوات عبر عدة مبادرات ظهرت محليا لاستبدال مصادر الطاقة بمصادر بديلة أخرى أكثر استدامة وصديقة للبيئة وملائمة للحيز البيئي الإيكولوجى المحلي، وتعمل على تخليق فهم جديد للعلاقات بين السكان والمكونات الإيكولوجية، أنها لا تزال محاولات مشتتة وغير قادرة على تقديم بديل لمعضلة الحياة اليومية للناس اليوم.

المراجع:

[1] معين بسيسو، الأعمال الشعرية الكاملة 1964-1966، (بيروت: دار الفارابي، 2016)،24.

[2] Boris Cyrulnik, Un merveilleux malheur, (Paris: Odile Jacob, 1999).

[3] (مجلس تنظيم قطاع الكهرباء في فلسطين،2011)، سيناريوهات التنمية العمرانية في فلسطين للعام 2025 وللعام 2050 تقرير المرحلة الأولى (دراسة غير منشورة)، مركز التعليم المستمر، جامعة بيرزيت، تشرين الاول، 2014.

[4] دائرة الإحصاء الفلسطينية، "كمية الطاقة الكهربائية المتاحة في فلسطين حسب السنة ومصدر الطاقة الكهربائية 2010-2020"، شوهد بتاريخ 22 أيار 2023 https://www.pcbs.gov.ps/Portals/_Rainbow/Documents/Energy%20_ELEC_TS_2010-2020_A.html https://www.pcbs.gov.ps/Portals/_Rainbow/Documents/Acsess-electricity-A_2007-2022.html

[5] “Israel Used ‘calorie Count’ to Limit Gaza Food during Blockade, Critics Claim,” The Guardian, October 17, 2012, https://www.theguardian.com/world/2012/oct/17/israeli-military-calorie-limit-gaza.

[6] مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أوتشا، "تأثير أزمة الكهرباء والوقود في غزة على الأوضاع الإنسانية"، تموز 2015، شوهد بتاريخ 22 أيار 2023، https://www.ochaopt.org/sites/default/files/ocha_opt_gaza_electricity_factsheet_July_2015_arabic.pdf?fbclid=IwAR32TEnDsJCxJHwgSk-eIfYcxqHVpYRNctsswS9rXZ2p3un3ZcQJC6Bwf-Q

[7] " "كهرباء غزة"... تحسن ملحوظ في "الظلام"، جريدة اندبندت عربية، 23 حزيران 2022. https://www.independentarabia.com/node/344536/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%AA%D9%82%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%B1/%D9%83%D9%87%D8%B1%D8%A8%D8%A7%D8%A1-%D8%BA%D8%B2%D8%A9-%D8%AA%D8%AD%D8%B3%D9%86-%D9%85%D9%84%D8%AD%D9%88%D8%B8-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B8%D9%84%D8%A7%D9%85

[8] أداة إنارة قديمة تعمل على الكيروسين أو الغاز وبدأ المواطنون باستخدامها من جديد في غزة منذ بدء انقطاع الكهرباء خلال الحصار.

[9] مقابلات مع شبان في مدينة غزة بتاريخ 18 كانون الأول 2023.

[10] Ferrier Jean-Louis (dir.), Sémiotique de l'espace, architecture, urbanisme: sortir de l'impasse, (Paris: Ed Denoël et Gonthier, 1979), 193-213.

[11] محمد أبوسل، "شمبر،" 2012، شوهد بتاريخ 30 أيار2023، http://abusalmohamed.com/project/shambar/

[12] مقابلات مع سكان في أحياء الدرج والنصر في مدينة غزة في الفترة الواقعة بين حزيران 2022 وكانون ثاني 2022.

[13] مقابلة مع المواطن ا.س.، 42 سنة، تاجر. أجريت المقابلة عبر الهاتف بتاريخ تشرين الأول 2022.

[14] مقابلة مع المواطنة ن.ج.، 38 سنة، صاحبة منشأة اقتصادية. أجريت المقابلة عبر الهاتف بتاريخ 8 كانون الأول 2022.

[15] GOFFMAN Erving, La mise en scène de la vie quotidienne. Les relations en public. (Paris : Editions de Minuit, 1973), 59.

[16] مقابلة مع المواطن ي. ن.، 35 سنة، طبيب. أجريت المقابلة بتاريخ 9 كانون الثاني 2023.

[17] مقابلات مع سكان في أحياء الدرج والنصر في مدينة غزة في الفترة الواقعة بين حزيران 2022 وكانون ثاني 2022.

[18] مقابلة مع المواطنة م. ف.، 33 سنة، موظفة في السلطة الفلسطينية تتقاضى نصف راتب. أجريت المقابلة عبر الهاتف بتاريخ 13 كانون الأول 2022.

[19] مقابلة مع ن.ع.، 46سنة، صاحب بقالة، في حى الصبرة. أجريت المقابلة عبر الهاتف. [20] UPS: Uninterruptible Power Supply

[21] مقابلة مع غ. ا.، 60 سنة، متقاعد، أجريت المقابلة عبر الهاتف بتاريخ 8 كانون الثاني 2022.

[22] مقابلة مع ك. س.، 56 سنة، مدرس، أجريت المقابلة عبر الهاتف بتاريخ 15 كانون الثاني 2022.

[23] مقابلات مع سكان في أحياء الشجاعية والرمال الجنوبي في مدينة غزة في الفترة الواقعة بين حزيران 2022 وكانون الثاني 2022.

[24] مقابلات مع سكان في أحياء الرمال والصبرة في مدينة غزة في الفترة الواقعة بين حزيران 2022 وكانون الثاني 2022.

[25] "أزمة الكهرباء بغزة.. وجه مظلم آخر للحصار،" الجزيرة، 13 حزيران 2017، شوهد بتاريخ 23 أيار 2023، https://www.aljazeera.net/encyclopedia/2017/6/13/%D8%A3%D8%B2%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%87%D8%B1%D8%A8%D8%A7%D8%A1-%D8%A8%D8%BA%D8%B2%D8%A9-%D9%88%D8%AC%D9%87-%D9%85%D8%B8%D9%84%D9%85-%D8%A2%D8%AE%D8%B1-%D9%84%D9%84%D8%AD%D8%B5%D8%A7%D8%B1

[26] ""كهرباء غزة"... تحسن ملحوظ في "الظلام"،" جريدة اندبندت عربية، 23 حزيران 2022، شوهد بتاريخ 23 أيار 2023 "كهرباء غزة"... تحسن ملحوظ في "الظلام" | اندبندنت عربية (independentarabia.com)

[27] المرجع السابق.

[28] المركز الفلسطيني لحقوق الانسان، "تفاقم أزمة الكهرباء يزيد معاناة سكان قطاع غزة ويهدد حياتهم بشكل جدي" ،11 حزيران 2017، شوهد بتاريخ 05/03/2023 https://pchrgaza.org/ar/%D8%AA%D9%81%D8%A7%D9%82%D9%85-%D8%A3%D8%B2%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%87%D8%B1%D8%A8%D8%A7%D8%A1-%D9%8A%D8%B2%D9%8A%D8%AF-%D9%85%D8%B9%D8%A7%D9%86%D8%A7%D8%A9-%D8%B3%D9%83%D8%A7%D9%86-%D9%82

[29] "مظاهرات بغزة ضد نقص الكهرباء والأمن يعتدي عليها "، جريدة عربي، 12 كانون ثاني 2017، شوهد بتاريخ 04 أيار2023 https://arabi21.com/story/977811/%D9%85%D8%B8%D8%A7%D9%87%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D8%A8%D8%BA%D8%B2%D8%A9-%D8%B6%D8%AF-%D9%86%D9%82%D8%B5-%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%87%D8%B1%D8%A8%D8%A7%D8%A1-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D9%86-%D9%8A%D8%B9%D8%AA%D8%AF%D9%8A-%D8%B9%D9%84%D9%8A%D9%87%D8%A7-%D9%81%D9%8A%D8%AF%D9%8A%D9%88

نبذة:

أباهر السقا، أستاذ مشارك في دائرة العلوم الاجتماعية والسلوكية في جامعة بيرزيت، حامل لشهادة الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة نانت- فرنسا. عمل كمحاضر في جامعة نانت من 1998-2006، وأستاذ زائر في العديد من الجامعات الفرنسية والبلجيكية من 2009-2023. له العديد من الدّراسات في مجالات علم اجتماع الحضري، والاستعمار الاستيطاني، والتاريخ الاجتماعي

قراءات ذات صلة

Previous
Previous

The Strike: Interrupting Power 

Next
Next

لوين بتروح الكهربا؟”: كلمة المحرّرين”